تحولات ترامب في الشرق الأوسط- تحالفات جديدة وديناميكيات متغيرة

المؤلف: هشام جعفر09.03.2025
تحولات ترامب في الشرق الأوسط- تحالفات جديدة وديناميكيات متغيرة

يشكل المسلك الذي انتهجه ترامب، والموسوم بأسلوبه التفاوضي، والمعتمد على مبدأ "أمريكا أولاً" والسعي الدؤوب لاستعادة أمجادها الغابرة، علاوة على استعداده لممارسة الضغوط على الحلفاء، والانخراط المباشر مع قوى غير حكومية، مع ما يتبدى من تجاهل للأعراف الدبلوماسية المعهودة والإجماع الدولي، منعطفًا حاسمًا في مسار العلاقات والتحولات في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.

يتجلى هذا التحول في تبدل موقف الولايات المتحدة حيال إسرائيل، وفي تعاملها مع تركيا في قضايا جوهرية كالأزمة السورية، كما يظهر تأثيره الجلي على السياسات الداخلية في دول مثل الأردن، مما يخلق بيئة جديدة تعيد فيها القوى الإقليمية تقييم استراتيجياتها بعين ناقدة، وتسعى جاهدة إلى تكوين تحالفات جديدة ومتينة. كما أن اللاعبين الإقليميين يستثمرون نزعة ترامب لإبرام الصفقات، وذلك بهدف تحقيق أجنداتهم الخاصة المتعلقة بقضايا تمس صميم مصالحهم القومية.

تشهد الديناميكيات الإقليمية في الشرق الأوسط تعقيدًا بالغًا. فقد أظهرت دول عربية خليجية انفتاحًا ملحوظًا على إيران، على الرغم من استمرار حالة التنافس الشديد. بالإضافة إلى ذلك، فإن توسيع مسار اتفاقيات أبراهام يواجه تحديات جمة، خاصة مع ربطها بمعالجة أزمة غزة الملحة والقضية الفلسطينية العادلة.

تواصل تركيا تعزيز نفوذها المتزايد في سوريا، وتحافظ على علاقات معقدة ومتشابكة مع إسرائيل، على الرغم من التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ونقاط التعاون المحتملة ضد النفوذ الإيراني المتنامي.

أما إسرائيل، فتبدو وكأنها تتمتع بحرية مطلقة في التصرف في غزة والضفة الغربية، في حين تمارس الولايات المتحدة حق "الفيتو" على أي عمل عسكري إسرائيلي محتمل تجاه إيران.

يتميز الشرق الأوسط بشبكة معقدة من التحالفات المتغيرة باستمرار، حيث تتلاشى الثوابت التقليدية، ويجعل تداخل خطوط الانقسام الدولية والإقليمية إقامة تحالفات دائمة ومتجانسة أمرًا في غاية الصعوبة، وهو ما ينطبق على وضع الأكراد في المنطقة، والصراعات المتعددة والمعقدة في سوريا والعراق ولبنان.

تشهد المنطقة تنافسًا حادًا وعدائيًا في بعض الأحيان، لكن سرعان ما يتحول إلى تعايش براغماتي، على غرار العلاقات الخليجية الإيرانية، والعلاقات الخليجية التركية، والعلاقات المصرية مع كل من تركيا وإيران.

تبقى هذه العلاقات محكومة بمخاوف الهيمنة الإقليمية والاعتبارات المذهبية والطائفية، إضافة إلى المنطق التعاوني الناجم عن المصالح الاقتصادية المتبادلة.

على الرغم من التحولات المستمرة في موازين القوى، لا يزال الشرق الأوسط منطقة تشهد صراعات مستمرة واضطرابات متفاقمة. ومن المتوقع أن يبقى الوضع متقلبًا، وأن تظل التوترات كامنة ومتصاعدة. إذ يهدد تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية الاستقرار الهش في لبنان.

لم تستقر سوريا الجديدة بعد، وبدأ شبح تهديد السلم الأهلي بين مكوناتها العرقية والمذهبية والطائفية يطل برأسه. وتبرز تركيا كقوة مهيمنة في سوريا، لكن قواعد الاشتباك الدقيقة وتقسيم مناطق النفوذ بينها وبين إسرائيل لم تتضح معالمها بعد.

يضاف إلى كل هذا صراعات طال أمدها لعقد أو يزيد كاليمن، والصومال، وليبيا، وانضمت إليها الحرب الأهلية المدمرة في السودان.

في هذه البيئة المعقدة والمتغيرة، يعمل نهج دونالد ترامب على تغيير التحالفات والديناميكيات الإقليمية القائمة في الشرق الأوسط من خلال آليات رئيسية متعددة:

1- تراجع النفوذ الأميركي وصعود قوى جديدة منافسة:

يشهد العالم تراجعًا طويل الأمد في النفوذ العالمي المهيمن للولايات المتحدة، وهو الاتجاه الذي يساهم نهج ترامب في تسريعه بوتيرة ملحوظة.

هذا التراجع جلي وواضح على الصعيد العالمي وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، مما يفسح المجال لقوى أخرى صاعدة، ويغير سياق عمل التحالفات الإقليمية القائمة. تواجه الولايات المتحدة منافسين أقوياء مثل الصين وروسيا، كما يتراجع الإجماع الداخلي بشأن القيادة العالمية.

يتشكل ما يطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد" في بيئة دولية متعددة الأقطاب وديناميكية تتسم بتراجع الهيمنة الأميركية الراسخة، وصعود قوى جديدة منافسة، مما يغير بيئته الجيوسياسية والجيو-اقتصادية، ويجعل التحالفات معقدة ومتغيرة، مع التركيز المتزايد على تحقيق المكانة الإقليمية المرموقة والاعتراف الدولي بها.

في "لعبة الشرق الأوسط الجديد"، يكتسب البعد الذاتي للمكانة والاعتراف من قبل الآخرين أهمية قصوى. لا تتنافس القوى الإقليمية على السلطة بالمفهوم التقليدي فحسب، بل تسعى أيضًا إلى الحصول على الاعتماد لإدارة مناطقها الخاصة بشكل مشترك. هذا "النضال المحموم من أجل الاعتراف" يحدد ملامح الصراع الإقليمي الجديد.

2- منح "حرية التحرك" للحلفاء مع إيجاد الضوابط:

تطلق إدارة ترامب يد الحكومة الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية المحتلة. ويشمل ذلك إلغاء عقوبات بايدن على المستوطنين المتطرفين.

يرى ترامب في الإبادة الجماعية المروعة في غزة أنها مشكلة ظرفية قصيرة الأمد يمكن حلها من خلال اتفاق لوقف إطلاق النار مقابل إطلاق سراح الرهائن. انهارت الهدنة عندما رفض نتنياهو، تحت ضغط من ائتلافه اليميني المتطرف، المضي قدمًا في المرحلة الثانية من الاتفاق التي تتضمن الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من القطاع.

ويقول مفاوض أميركي مخضرم سابق إن المواجهة الجوهرية التي كان على ترامب خوضها لإنهاء الحرب كانت مع نتنياهو شخصيًا، إلا أنه لم يفعل ذلك قط، ويبدو أن ما يجري في فلسطين لم يعد يحتل الأولوية القصوى لدى الإدارة الأميركية.

وفي خضم التغيرات والتحولات الإقليمية التي أحدثها ترامب، تعمل إسرائيل وفق تصورات قديمة وبالية، معتقدة، على حد تعبير أحد المحللين، أن نتنياهو "يترأس حاملة الطائرات الأميركية"، وأن القيمة الإستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة ثابتة وراسخة لا تتزعزع.

قامت إدارة ترامب بتقليص حجم القوات الأميركية المتمركزة في سوريا. سعت إسرائيل جاهدة إلى وقف هذا الانسحاب، ليس بدافع القلق على مصير الأكراد السوريين، ولكن لأن الانسحاب الأميركي كان مطلبًا تركيًا قائماً منذ أمد بعيد.

تعتبر تركيا الدعم الأميركي المتواصل للأكراد بمثابة عقبة كأداء أمام تحقيق أمنها القومي. يوضح هذا رد فعل إسرائيل الغاضب، بما في ذلك الضربات الجوية المتكررة لمنع تركيا من إقامة دفاعات جوية هناك، على التحول المحتمل في السياسة الأميركية وتداعياته الوخيمة على الديناميكيات الإقليمية التي تشمل تركيا.

يرى البعض أن الاتفاق الذي يشمل الأكراد السوريين والرئيس السوري بشار الأسد، قد يجعل تركيا فعليًا "ذراعًا عسكرية أميركية" ضاربة في سوريا، لا سيما في مواجهة تنظيم الدولة الإرهابي. تخلق هذه الديناميكية تقاربًا استراتيجيًا في المصالح بين الرئيس التركي أردوغان وترامب.

يثق ترامب ثقة عمياء في قدرته على تحسين العلاقات الإسرائيلية التركية المتوترة، وقد صرح لنتنياهو بأنه يتمتع "بعلاقة جيدة جدًا مع تركيا وزعيمها". يشير هذا إلى أن ترامب ينظر إلى التوتر القائم بين حليفي الولايات المتحدة على أنه أمر يمكنه حله أو التوسط فيه، بدلاً من اعتبار إسرائيل مصدرًا لزعزعة الاستقرار في المنطقة. قد يكون ترامب قادرًا على مساعدتهما في إيجاد سبل فعالة لتخفيف التوتر وتجاوز الخلافات، وربما التعاون البناء ضد النفوذ الإيراني المتنامي.

3- ممارسة أقصى الضغوط على الشركاء التقليديين:

يتضمن نهج ترامب استخدام النفوذ الأميركي الهائل، وخاصة المساعدات المالية والعسكرية، للتأثير على شركائها العرب التقليديين، ويتجلى ذلك في القرارات المتشددة الصادرة ضد بعض جماعات الإسلام السياسي، والتي يربط البعض بينها وبين نهج ترامب المتصلب تجاه تلك الجماعات، والذي تجسد بوضوح في تعيين مستشارين بارزين مثل إريك ترايجر، مسؤول قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي والمعروف بعدائه الشديد للإسلاميين.

4- التعامل المباشر مع الجهات الفاعلة غير الحكومية والسعي الحثيث إلى إبرام الصفقات:

أبدت إدارة ترامب تفضيلها المطلق لإبرام "صفقات كبرى" في الشرق الأوسط على الانخراط في الحروب الممتدة التي لا طائل منها. يتمثل الهدف الرئيسي في توسيع اتفاقيات التطبيع لتشمل دولاً محورية في المنطقة، وهو ما بات مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بإيجاد حل عادل ومستدام لأزمة غزة المتفاقمة.

جدير بالذكر أن مبعوث ترامب الخاص أظهر استعداده للتفاوض بشكل مباشر مع حركة حماس، وهو ما يمثل انحرافًا واضحًا عن السياسة الأميركية التقليدية التي تصنف حماس كمنظمة إرهابية.

كما أبرم صفقة مع الحوثيين في اليمن، على الرغم من أنه كان قد أعاد تصنيفهم كجماعة إرهابية. يبرهن الاتفاق الأميركي-الحوثي، الذي تم بوساطة عمانية، على أن إدارة ترامب فضلت مصلحة ‘أميركا أولاً’ على مبدأ ‘إسرائيل أولاً’ في حال تعارض المصالح بينهما.

يرى البعض أن هذا الانخراط المباشر، إلى جانب الاستعداد للضغط على الحلفاء والخصوم على حد سواء، يضع ترامب في موقع فريد لتسهيل عقد الاتفاقيات الصعبة، بما في ذلك إحياء الاتفاق النووي الإيراني المتعثر.

فيما يتعلق بإيران، يوصف نهج ترامب بأنه نهج يفضل الدبلوماسية الهادفة، لكنه يقترن بتهديد واضح وصريح بالعمل العسكري. ترى بعض الأصوات النافذة في إدارته أنه يجب على ترامب أن يعلن، علنًا وسرًا، أنه إذا رفضت طهران التوصل إلى اتفاق دبلوماسي، فلن يكون أمام الولايات المتحدة، بالتعاون الوثيق مع إسرائيل، خيار آخر سوى تدمير البنية التحتية النووية الإيرانية بالكامل. الهدف من ذلك هو جعل قادة إيران يدركون أنهم يخاطرون بخسارة استثماراتهم الهائلة في المنشآت النووية.

إلى جانب هذه التهديدات الصريحة، تتضمن إستراتيجية ترامب أيضًا تقديم حوافز مغرية، ويشمل ذلك وعودًا بالاستثمار الضخم في إيران ورفع العقوبات الاقتصادية المؤلمة.

5- التأثير العميق على المنافسين والتحالفات الإقليمية:

يتميز نهج ترامب بالتشكيك العميق في التحالفات القائمة والمطالبة بمعاملة قائمة على المنفعة المتبادلة من الحلفاء من خلال دفع المزيد من "الجزية الإمبراطورية" – على حد تعبير أحد المراقبين السياسيين.

وقد دفع ذلك حلفاء رئيسيين في مناطق أخرى مثل أوروبا وشرق آسيا إلى تطوير قدراتهم الدفاعية الخاصة بعيدًا عن واشنطن. وفي سياق الشرق الأوسط، يُنظر إلى إسرائيل على أنها "عالقة في تصورات قديمة وبالية" بينما يغير ترامب قواعد اللعبة، مما يشير إلى انزعاج عميق أو تحد سافر للتحالفات التقليدية الراسخة.

تمثل الأهداف الإستراتيجية التي حددها ترامب في غزة "تهديدًا وجوديًا كبيرًا" للسيادة والاستقرار العربي، لا سيما بالنسبة لدول مثل مصر والأردن. ينبع هذا التصور من المخاوف المشروعة بشأن مقترحات خطيرة مثل تهجير السكان، وهو ما يشير إلى فشل ذريع في بناء الثقة، أو تحقيق قبول للسياسة الأميركية بين شعوب وحكومات المنطقة.

لمواجهة هذا التهديد المحدق، يدعو البعض إلى تشكيل جبهة موحدة واسعة من هيئات إقليمية بارزة مثل منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، وربما بالتحالف الاستراتيجي مع روسيا والصين، لمواجهة هذه الطموحات المزعومة، مما يشير مرة أخرى إلى الفشل المستمر في التحالف الفعال مع هذه الجهات الفاعلة.

فيما يتعلق باحتمالية تمكين المنافسين، يُنظر إلى المنافسين الرئيسيين للولايات المتحدة، وهما روسيا والصين، على أنهما يستفيدان بشكل كبير من تصرفات واشنطن المتهورة التي تضعف مكانتها كقوة عالمية عظمى.

يمكن أن يؤثر هذا التراجع والتحول الدراماتيكي في ديناميكيات القوة العالمية على التوازنات الإقليمية الدقيقة في منطقة الشرق الأوسط، مما قد يسمح للجهات الفاعلة الأخرى، بمن في ذلك الخصوم أو المنافسون، بزيادة نفوذهم الهائل، وهو ما يمكن اعتباره نتيجة مباشرة لنهج السياسة الأميركية الذي يؤدي إلى إجهاد التحالفات الراسخة وخلق فراغات خطيرة.

وبشكل عام، تحولت السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب نحو نهج أكثر براغماتية وانتهازية وأحادية الجانب، متجاوزة في كثير من الأحيان التحالفات التقليدية ومركزة بشدة على عقد صفقات محددة، مع إحداث تغييرات ملحوظة في الموقف تجاه الحلفاء والخصوم في مختلف المناطق الحيوية، لا سيما الشرق الأوسط وأوروبا وشمال شرق آسيا.

هنا يثور السؤال الجوهري: هل تمثل هذه السياسات وصفة أكيدة للنجاح المنشود أم طريقًا ممهدًا للفشل الذريع، وسبيلًا حقيقيًا للاستقرار الإقليمي أم مجرد وصفة لمزيد من زعزعة الاستقرار وتقويض الأمن؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة